طموح النفوذ الذي يمتد من البلقان إلى القوقاز، ومن أفريقيا إلى أوروبا لم يفارقها، و الكارثة الليبية جزء مبسط للكارثة السورية التي لم تتوقف تركيا عن إشعال فتيل النزاع فيها.

خسرت تركيا نفوذها في المنطقة لصالح فرنسا واليونان بعد الحرب العالمية الأولى خلال حرب الاستقلال التركية (1919 – 1923) بين تركيا من جهة واليونان وأرمينيا وفرنسا من جهة أخرى و خسرت بالمجمل أمام المملكة المتحدة وإيطاليا، واليوم لا تتنازل عن خوض معركتها الخاصة في إيجاد موقع لها مع تغير موازين القوى في العالم، ويبدو أننا أمام تحدي صعب للغاية لمواجهة المخططات التركية، وإذا ما تخلينا عن مواجهة ما يجري فإن علينا تحمل تبعات وخسائر ذلك مستقبلا.

"حرب استقلال جديدة في سوريا وليبيا" هكذا يصف الرئيس التركي الأمر عندما يتحدث عن مناطق خسرتها الدولة العثمانية، تلك الأجزاء التاريخية تصبح اليوم جزءا لا يتجزأ من تركيا الجديدة، ويرفع معنويات جيشه اذا ما حققوا ما يصفه بالانتصارات فيها، بأنها ستغير مجرى التاريخ.

يحمل الشرق الأوسط العديد من الملفات الساخنة التي لا يزال يعالجها حتى اليوم ولا يملك رفاهية الوقت للتعامل مع طموحات الرئيس التركي ببساطة ودون اكتراث أو تراخي، وهي تصرفات خرقت القوانين الدولية و ابتعدت كثيرا عن العمل الدبلوماسي، فلا بد من فتح ملف الطموحات التوسعية بداية من هذا التحدي لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة والغرب في البحر المتوسط وليبيا وسوريا، بسنوات من الحرب في سوريا تحت غطاء مطاردة الأكراد، والاتفاق الذي أبرم مع حكومة طرابلس التي يرأسها فايز السرّاج، بالسمح لتركيا تجاوز قبرص والتنقيب عن الوقود الأُحفوري في حقول الغاز حتى خليج سرت، حتى وصل إلى فتح مسار إلى مياه الصومال للتنقيب عن النفط مبديا استعداده لعقد المزيد من الصفقات لاستكمال مشروعه تحت أي بند أو عنوان.

العلاقات التركية الروسية تنافسية بالعموم منذ انهيار الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية في بدايات القرن العشرين، وكان سلوك تركيا تجاه المسألة الشيشانية، وسلوك روسيا تجاه مسألة حزب العمال الكردستاني PKK بشكل خاص يشكّلان الأسباب الرئيسة لاختلاف الطرفين، وعندما ازدهرت العلاقات بينهما لم يستطيع أي شيء هزها ،حتى اغتيال سفير روسيا لدى تركيا أندريه كارلوف، إلى أن جاءت الحرب الداخلية السورية لتهدد ما  اجتهد الطرفان لبنائه على مدار عقدين من الزمن، و  إن الأسوأ بالنسبة إلى تركيا هو الهزيمة في إدلب، لإلحاقها أضرار عسكرية بجيشها في مناطق أخرى شمالي سوريا لا يمكن إصلاحها مستقبلا.

خلفية العلاقات الروسية التركية تجعلنا نتوقع ما سيقدم عليه الطرفان في ادلب وتبعاته على توازن القوى حولنا، فالموقف التركي تغيير من خلال اعلانه عودة الدوريات المشتركة مع روسيا في الشمال السوري، مع اقتراب نهاية فبراير، الموعد الذي حدده الرئيس التركي، للقوات السورية، من أجل الانسحاب من محيط نقاط المراقبة التركية التي تقصف حتى اللحظة من الجيش السوري.

و لإنقاذ العلاقات الروسية التركية من الانهيار بسبب ما يحدث في إدلب، نرجح عقد هدنة زمنية، فالرئيس التركي ظهر ليتحدث عن عدم وجود اتفاق نهائي على عقد القمة الرباعية الخاصة بسوريا في مارس المقبل، وإن وفدا روسيا سيزور تركيا لمناقشة الأوضاع في إدلب، وهو يعلم أنه سيخسر كل شيء اذا ما استمر بنهج السير المنفرد، ومهما وصل من علاقات مع روسيا لن يتجاهل الرعب الذي تشكله ادلب أمام التحالف الروسي السوري، مع عدم  تترد روسيا في دعم حليفتها تركيا بإقامة مناطق آمنة لإواء الفارين من المعارك، وتتجاهل الطموحات التوسعية التركية وما تفعله في ليبيا رغم معارضتها والأوروبيين سويا لذلك، فتركيا تمتلك بموجب اتفاق 2018 مع موسكو، 12 مركز مراقبة في إدلب.

تبعث الخطوة التركية في ليبيا برسالة إلى من يسيطرون على مجال الطاقة في المنطقة،  بأن تكلفة عدم ضمّ أنقرة إلى معادلة توزيع الثروة سيكلفهم عدم وصول خطوط أنابيب الغاز إلى أوروبا، فليبيا بالنسبة لأردوغان جزء من المناطق النائية الأوسع في شرق البحر المتوسط ولا تمتلك الكثير من الأصدقاء و بوابة اقتصادية لا تستطيع تفويتها، وما يجعل تلك الطموحات تنهار" الجغرافيا العسكرية المعقدة للأرض الليبية" التي  تجعل المعركة محسومة من البداية، فالجيش الليبي لم يسمح  لسفينة أو مدرعة تركية بالدخول إلى  أراضيه و أحرق جميع الطائرات المسيرة التركية فوق سمائه، وخسر أردوغان جنوده في مواجهات بطرابلس وسرت ومصراته.

كم بقي من مستشاري حكومة فايز السراج الخمسة والثلاثين الذين أعلن عنهم أردوغان؟  وكم ستبلغ الميزانية المتوقعة لمقتل المرتزقة على الأراضي الليبية؟، حيث عليه أن يدفع لأسرة كل مرتزق يفقد حياته في ليبيا ما يعادل 35 ألف دولار أمريكي، نتحدث عن بلد تبلغ مساحته ضعف مساحة تركيا بمرة ونصف، و هناك المزيد من فصول مسرحية أزمة ليبيا والدور الأكبر لتركيا فيها سيتكشف خلال الأشهر القليلة المقبلة.

العدوانية التركية تبدو في ازدياد يحتاج إلى دراسة تحالفات القوى حولنا بدقة، لتبعات تصرفاته السلبية في تفاقم التوترات الاقليمية الحالية، وإحداث أزمة حقيقة في منطقة الشرق الأوسط، فمن يخاطر بعلاقاته مع بوتين التي تعتبر الأقوى دون غيرها يمكنه فعل المزيد، وعدم اكتراثه بالجميع وعلى رأسهم  باريس وبرلين ولندن يجعل المعارضة الداخلية في بلاده تتصدر قائمة الحلول التي ستتمكن مستقبلا من وضع حد لتصرفاته التي وصفت بـ الطائشة في دعم الجماعات الإرهابية وتكبيد البلاد مليارات الدولارات دون الوصول إلى أي نتائج.