اعتُمِدت معاييرٌ لقياس القوَّة والضَّعف، الغنى والفقر في الدّول لفترةٍ مديدة من التّاريخ الحديث والمعاصر، ودُرِجَ على إعمالها لبيان مطابَقة هذا النّموذج من الدّول لهذا المعيار وذاك. وأظهرُ المعايير تلك، اعتماداً وإعمالاً، معيارا القدرة العسكريّة الضّاربة والقوّة الاقتصاديّة الهائلة.

وما كان صدفةً أن يُرْكَن إلى هذين المعياريْن، على وجه التّحديد، في الدّراسات الاستراتيجيّة كما في التّقارير الدّوليّة؛ ذلك أنّ توسُّلهما من دون غيرهما - أو أكثر من غيرهما- لتحديد قدرات الدّول ومكاناتها في سلَّم القوّة والنّفوذ، إنّما هو (توسُّلٌ) شديدُ الصّلة بالمفهوم التّقليديّ للأمن القوميّ الذي ظلّ سائداً زمناً طويلاً امتدّ إلى ما بعد نهاية الحرب العالميّة الثّانيّة، بل إلى نهاية السّتينيّات من القرن العشرين الماضي، والذي كان يحسب أمنَ دولةٍ محفوظٌ متى ما احتازت القدرة على الدّفاع العسكريّ عن أرضها وسيادتها ومكتسباتها، ومتى ما أسعفتْها قوّة اقتصادها القوميّ في تأمين الموارد الكافية لبناء تلك القدرة وتعزيزها.

منذ سنوات الخمسينيّات، ابتُدِئ في التّشديد على العامل الاقتصاديّ، كعاملٍ استراتيجيّ، في بناء الأمن القوميّ وحِفْظه بعد أن اعتيد على التّركيز الأوحديّ على العامل العسكريّ.

هكذا بِتْنا ندرك - مع هذه العقيدة الجديدة - أنّ دولةً مّا لا تَقْوى على أن تحفظ أمنها وسيادتها بجيوشها والأساطيل فحسب، بل باستقلالها الاقتصاديّ الذي لا يمتكن أمرُه إلاّ متى تمتّع اقتصادُها القوميّ بالقوّة والوفرة.

ووظيفة القوّة الاقتصاديّة هذه لم تعد تنحصر، فقط، في تأمين موارد بناء القدرة العسكريّة وتعظيمها، بل أيضاً - وأساساً- في تأمين نفسها من خطر الحاجة إلى غيرها و، بالتّالي، تأمين نفسها من خطر التّبعيّة. ومن حينها، صار مألوفاً الحديث - داخل عقيدة الأمن الاقتصاديّ-  عن أمنٍ غِذائيّ وأمنٍ مائيّ وما في معنى ذلك بما هي روافد لأمنٍ اقتصاديّ يتنزّل من الأمن القوميّ منزلة الرّكن الثّاني (إلى جانب القدرة العسكريّة التي أصبح معيارُها، هي أيضاً، حيازة قدرة استراتيجيّة أعلى من السلاح التقليديّ).

وما كانت أيٌّ من الدّول الكبرى لتجتمع فيها، بالضرورة، القوّتان العسكريّة والاقتصاديّة بالتّلازم. بعضُها القليل كان كذلك: بريطانيا وفرنسا، في القرن التّاسع عشر والعقود الثّلاثة الأولى من القرن العشرين؛ والولايات المتّحدة الأمريكيّة في الثّمانين عاماً الأخيرة؛ والصّين في الثّلاثين عاماً الأخيرة.أمّا الغالب عليها فأنْ تَرْجح كفّة إحدى القوّتين فيها على الأخرى.

هذه ألمانيا النّازيّة، مثلاً، لم تكن أكبر قوّةٍ اقتصاديّة في أوروبا الثّلاثينيّات ونصفِ الأربعينيّات الأوّل حين كان جيشها أقوى جيوش القارّة؛ وهذه الصّين، اليوم، التي تملُك ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ولكن التي لا تملك قدرة الجيشين الأمريكيّ والرّوسيّ؛ وهذه اليابان وألمانيا اللّتان تحتلاّن المرتبتيْن الثّالثة والرّابعة في ترتيب القوّة الاقتصاديّة العالميّة، ولكن اللّتان لا تملكان جيشاً يُضاهي الجيش البريطانيّ أو الفرنسيّ، أو حتّى أقلّ منهما قدرةً. ليس، إذن، من تَلاَزُم ضروريّ بين القدرتين والقوّتين، إلاّ في القليل النّادر من الحالات، وإن ظلّ تحقيق مثل ذلك الجمْعُ بينهما والتّلازم طموحاً استراتيجيّاً تسعى الدّول الكبرى من أجل بلوغه.

نشهد، اليوم، على تغيُّر كبير في مفهوم الأمن الاستراتيجيّ وموارده، منذ أن بدأ التغيُّر يدبّ إلى مفهوم التّنميّة نفسه في العقود الخمسة الأخيرة. التّنميّة، في مفهومها التّقليديّ، تسخير لموارد الطّبيعة الحيويّة؛ المتبدّدة والمتجدّدة على السواء، وتصنيعٌ لها وتحقيق للوفرة المجيبة عن الحاجات.

والتّنميّة هذه تصبح ممكناً من الممكنات الواقعيّة متى ما توافرت متلازمةُ: العلم (والتِّقانة) والاستثمار والثّروة الطّبيعيّة. وهي أمْكَنُ منها في البلدان ذات الثّروات الطبيعيّة الهائلة، كالولايات المتّحدة الأمريكيّة وروسيا، من التي لا ثروات فيها (اليابان، كوريا...)، أمّا من تَقْوى على الحصول عليها عبر نهبها (كما فعلت دول الاستعمار في مستعمراتها) فتملك أن توفّر لتنميّتها الإمكان الماديّ. في الأحوال كافّة، ما خرج معنى التّنميّة التّقليديّ هذا عن حدود استغلال الطّبيعة واستثمار مواردها؛ إذِ التّنميّة، في منطوقه، تحويلٌ للطّبيعة وتصنيعٌ لموادّها الأوّليّة في شكل سِلع تدخل في دورة التّداوُل التّجاريّ.

معنى التّنميّة، اليوم، اختلف؛ إنّها تنميّة إنسانيّة، في المقام الأوّل، أو تنمية للإنسان وللمورد البشريّ. وقد يُستفاد، في هذا النّمط من التّنميّة، من التّراكم في الثّروات والخبْرات التي وفّرتها التّنميّة الأولى (التّقليديّة)، في البلدان التي أصابت حظّاً من النّجاح فيها، وقد لا يُستفاد منها كثيراً خاصّةً في البلدان التي لا موارد طبيعيّة ذاتَ قيمة تمتلكها.

دخل مفهوم التّنميّة البشريّة (أو الإنسانيّة: وهو الأدقّ) في قائمة المعايير، لدى المنظّمات الدّوليّة، في قياسها قدرات الدّول ونسب التّنميّة فيها. هكذا ما عادتِ التّنميّة تتقَدَّر بنسبة النّموّ الاقتصاديّ في هذا البلد أو ذاك، وإنّما بما تشمله من قطاعات الحياة الاجتماعيّة الحيويّة، وبما تغطّيه من حاجاتها (التّعليم، الصّحة، السّكن، جودة الحياة، البحث العلميّ، الحقوق الأساسيّة، الخِدمات العامّة...). إنّها ما بعد النّموّ أو، قُل، إنّها توزيع عائداته توزيعاً اجتماعيّاً عموميّاً. وهي، بهذا المعنى، أكثر عدالة في مضمونها من التّنميّة التّقليديّة وأشدّ اتّصالاً بإنسانيّة الإنسان بما هو أثمن رأسمال في الوجود. غير أنّ الذي لا مِرْيَة فيه أنّ هذا التحوُّل الكبير في مفهوم التّنميّة ما كان ليكون لولا أن مورداً جديداً دخل في منظومة الموارد الاستراتيجيّة، ونبَّه إلى حيويّته في أيّ بناءٍ تنمويّ، هو البحث العلميّ.