بين التّعليم والمعرفة والثّقافة أوْطدُ العلاقات. ما من حدٍّ من الحدود الثّلاثة هذه يستغني عن غيره ويكتفي بنفسه؛ إذِ الواحدُ منها يقوم بغيره، وبغيره ينفسح له إمكانُ أداء وظائفه الإنسانيّة والاجتماعيّة. بعضُ هذه الحدود مادّةٌ، وبعضُها وسيلةٌ حاملةٌ للمادّة، ولكن لا يعدم مع الفارق إمكان أن تصبح الوسيلةُ عينُها مادّة أو موضوعَ مادّة. لِنتبيّن، قليلاً، بعض الرّوابط بين هذه الحدود الثّلاثة.

المعرفةُ هي، على التّحقيق، إنتاجٌ ومنتوج؛ هي إنتاج بوصفها فاعليّةً ذهنيّة تتوسّل أدواتٍ بها تُنتِج، ويدخل في جملة تلك الأدواتِ المفاهيمُ، التي تتكوّن من تجريد Abstraction الوقائع والمعطيات الحسّيّة تجريداً يسمح بالتّفكير بها نظريّاً، والتّعبير عنها مفهوميّاً، وصوغها في قضايا ذهنيّة أو في فرضيّات علميّة (قبل اختبارها). وهي منتوج بما هي معرفة/حصيلة؛ أي بما هي نتيجةُ بحثٍ واستقراءٍ واستنباطٍ ودراسةٍ لعمليّة الإنتاج المعرفيّ. والمعرفة، لهذا السبب، فعلٌ ذهنيّ نخبويّ بالضرورة؛ لا ينهض به إلاّ متخصّصون في المعرفة (علماء، فلاسفة، باحثون وأكاديميّون). وحاجتُها إلى أن تخرُج من نطاقات التخصُّص الضيّقة إلى حيث تنتشر وتفشو ويتلقّاها النّاس حاجةٌ ماسّة، وإلاّ ما كان منها فائدة، أو ما تعدّت فائدتُها الحلْقةَ الضيّقة لمنتجيها، ولا كان لها أثرٌ ماديّ في المجتمع والحياة الإنسانيّة والتّاريخ.

غير أنّ المعرفة لا تملُك، من تلقاء ذاتها، نشرَ محصولها وتحويلَه إلى مادّةٍ قابلةٍ للاستهلاك العلميّ العامّ، إنْ لم تتوسّل غيرَها وسائطَ في سبيل ذلك؛ وليس من وسيلةٍ أفْعل وأضمن تحقيقاً للغرض هذا من التّعليم. بالتّعليم، إذن، يَسَعُ المعرفةَ أن تنتقل من الحيّز النخبويّ الضيّق، حيِّز منتجيها، إلى الحيّز الاجتماعيّ الأرحب؛ الحيّز التّبادليّ والتّداوُليّ. وبانتقالها هذا تَتَحَقّق اجتماعيَّتُها، أي وظيفتُها التّاريخيّة التّي تكون بها المعرفةُ فاعلاً كبيراً في صُنع المصير الإنسانيّ وديناميّةً من ديناميّات التقدّم. واجتماعيّتُها هذه - التّي هي لحظةٌ منها تاليةٌ، في الزّمن، لِلَحْظتها الإيپيستيميّة- متوقّفَةٌ في حسن أدائها ونجاحها على حُسن الصّناعة التّي تقوم بها (وهي التّعليم)، تماماً كما يتوقّف حسن توزيع السِّلع (الزّراعيّة والصّناعيّة) على جودة مؤسّسات التّوزيع التّجاريّة ونجاعة عملها.

والتّعليم إذْ يوزّع المعرفة كمادّة على المتلقّين (= المتعلّمين)، يفعل ذلك بغايةٍ هي: تحويلُ المعرفة تلك إلى ثقافة؛ إلى منظومةِ مكتسبات معارفَ تصبح جمْعيّةً ومشتركة وتتشبَّع بها الذّهنيّةُ العامّة أو، على الأقلَّ، ذهنيّةُ الجسمِ المدرسيّ من المجتمع الذي أتيحت له فرصةُ التّعليم. ولا تقتصر فائدةُ هذه الثّقافة المتلقّاة على تطوير المدارك وتحصيل المعارف، بما ينمّي الوعيَ ويُبْطِل مفاعيل الجهل لدى المتلقّي والمجتمع، فقط، بل تتعدّى ذلك إلى تزويد المتعلّمين، والمجتمع والدّولة، بالموارد اللاّزمة لصُنع كفاءات مقتدرة على تسخير معارفها في الإنتاج المجتمعيّ: الفكريّ والماديّ، وتصيير المعارف تلك طاقةً اجتماعيّة منتجة.

على ذلك، يقع الاهتمام الشّديد بتطوير صناعة التّعليم، في الكثير من المجتمعات التّي تكوَّن فيها الإدراك الحادّ بالفائدة الاستراتيجيّة له في تمكين أبنائها من حيازة المعارف القابلة للاستثمار في الحقل الاجتماعيّ: في التّنميّة والتّقدُّم والحياتيّات. وليس في تركيز الانتباه على التّعليم، وتطوير سياساته وبرامجه ومناهجه، وتعظيم الإنفاق عليه سوى التّعبير الفصيح عن وعي الحاجة إلى تحويل المعرفة/المعارف إلى موارد اجتماعيّة تُتَوسَّل للإنماء والبناء. إنّ في ذلك اعترافاً بأنّ اجتماعيّة المعرفة وحدها تُعَظِّم فائدةَ المعرفة فتحوّلُها إلى رأسمال اجتماعيّ جزيلِ العائدات. ولقد يكون الوعيُ بذلك أظْهَرَ في حالة البلدان التي لا موردَ طبيعيّ لها تتوسّله في التّنميّة والبناء غير المورد المعرفيّ، الأمرُ الذي يتولَّد منه ميْلُها إلى سياسات مدارُها على تنمية الموارد الإنسانيّة؛ وهو عينُ ما أقدمتْ عليه دولٌ عدّة فقيرة إلى الموارد الطّبيعيّة.

غير أنّ التّعليم، في لحظةٍ من التّراكُم والتقدُّم والرُّسوخ فيه، يفيض عن مجرّد كونه صناعة لتوزيع معرفةٍ تُنْتِجُها نخبة عالِمة، ووسيلة - مركزيّة- من وسائل توصيلها إلى الجمهور ليصبح، هو نفسه، أداةً من أدوات إنتاج المعرفة والبحث العلميّ، و«مطبخاً» متقدّماً من مطابخها. هكذا هي حاله، اليوم، في أنظمة التّكوين المتقدّمة في العالم؛ فلقد أصبحتِ الجامعات ومختبراتُها، ومعاهد البحوث فيها، ووحدات البحث العلميّ في تخصّصاتها كافّة هي الفضاءات التي تجري فيها عمليّة إنتاج المعرفة ومراكمة مكتسباتها، وهي مراكز الجذب والاستقطاب لكلّ الكفاءات العلميّة. ومن نتائج ذلك، مثلاً، أنّ وجوهاً من التطوُّر والتّعديل طرأت على كيان المعرفة نفسه: لم يعد فعْلُ المعرفة فعلاً فرديّاً، بل أضحى يقوم به فرقُ العمل، وبتنا ننتقل، تدريجاً، من الفاعل العارف المفرَد إلى العارف الجماعيّ: إلى الجماعة العلميّة متعدّدة التخصُّصات.