لا تستقيمُ سياسةٌ دوليّة ولا علاقاتٌ دوليّة مع اختلال التّوازن بين القوى الشـّريكة في تلك العلاقات، إذ أن التّوازن وحده يضمن صوْن حقوق الشـّركاء كافّة في النّظام الذي هُم فيه شركاء.

هذه حقيقة ندركها في النّظام السيّاسيّ الواحد بمثل إدراكنا إيّاها في نظامٍ دوليّ جامع، فمن غير توازنٍ بين السُّلطات الثّلاث (التّشريعيّة والتّنفيذيّة والقضائيّة) يتولّد اختلالٌ في نظامِ عملِ الدولة، إذْ يكفي أن تترجّح الكفّةُ لصالح سلطةٍ واحدة حتى نتبيّن مؤشرات الخلل.

وقد يحدث أن يَخْتَلّ التّوازن بين القوى السّياسيّة التّمثيليّة، في مجتمعٍ سياسيّ مّا، فيفرض القويُّ فيها نفسَه بدرجةٍ كاسحة (في التّمثيل مثلاً)، فتكون النّتيجة اصْطباغ السّلطة المتولّدة من الاقتراع بلوْنٍ سياسيّ واحد متكرّر، وبالتالي، يُصابُ مبدأ التداوُل على السّلطة – وهو من أساسيّات الدّيمقراطيّة – بعطبٍ حادّ تصبح معه الحياةُ السّياسيّة آسِنةً لا تجدُّد فيها، هذا من دون حسبان ما ينجم عن ذلك من طغيانِ رأيٍ سياسيّ على رأيٍ آخر.

ولا يختلف الأمر في حالة أيّ نظامٍ دوليّ، من نوع النّظام الدّوليّ القائم اليوم، فهذا الأخير – المستمرّ اشتغالاً منذ العام 1945 – يكشف عن حالٍ من فِقدان التّوازن فيه منذ ترجّحت كفّةُ قواه لصالح فريقٍ من صُنّاعه على حساب آخرين، وبات يتصرّف لا كنظامٍ دوليّ جماعيّ، مبنيّ على الشّراكة والتّوافُق، بل كنظامٍ تنفرد فيه قوّةٌ بعينها بإدارته على نحوٍ يخدم مصالحها، ومن غير كبيرِ احتفالٍ بما عساها تكون حقوقُ الشّركاء الآخرين فيه، هؤلاء الذين يتوقّفون عن أن يستمرّوا فيه شركاء لأنّ التفرُّد بإدارته أسقط عنهم علاقةَ الشّراكة.

ومن النّافل القول إنّ نظامًا كهذا، ينْقُض مبدأَ الشّراكة ويُفصح عن ميْلٍ حادّ إلى إقامة إدارته على مبدأ القوّة بدلاً من مبدأ الحقّ – نظامٌ مختلّ التّوازن، وبالتالي مأزومٌ ومعرَّض للانحلال.

نظريًّا، الشّركاء في هذا النّظام هي الدّول الأعضاء في منظّمة الأمم المتّحدة، الموقِّعة على نظامها والملتزمة أحكامَ ميثاقها، والتي يُنْظَر إليها قانونيًّا بوصفها متساويّة الشّخصيّة بحسبانها دولاً ذات سيادة.

ولكن، لمّا كان الشّركاء متباينون في خياراتهم السيّاسيّة ومتضامنون في مجموعات أو أحلاف، أمكن القول إنّ الشّركاء في النّظام الدّوليّ ثلاثة: دول المعسكر الغربيّ، ودول المعسكر السوفييتي / الأورو – شرقيّ (سابقًا)، ودول منظومة الجنوب (عدم الانحياز).

هكذا كان تكوينه في الخمسة وأربعين عامًا الأولى من عمره قبل أن يطرأ عليه التّغيُّران الكبيران، اللّذان بدّلا من طبيعته ومن علاقات التّوازن داخله، زوال المعسكر "الاشتراكيّ" وانهيار قائده (الاتّحاد السوفييتي)، وانحلال منظومة دول الجنوب كمنظومة غير منحازة.

قلنا إنّ ذلك تعريفٌ للنّظام هذا نظريًّا، ذلك لأنّه – عمليًّا – نظامُ المنتصرين في الحرب العالميّة الثانيّة، وهؤلاء هُم مَن وضعوا قواعدَه ونظامه وأحكامه، على أنّه لا يُعْزى الحدّ الأدنى من التّوازن الذي قام عليه هذا النّظام الدوليّ، في الحقبة الأولى منه (1945 – 1990)، إلى تحكُّم هذه المكوّنات، المحاور الثّلاثة فيه، وخاصّةً المكوِّنين الرّئيسين الأوّليْن، بل يُعْزى بالقدر عينِه – وإنْ نظريًّا – إلى القانون الدوليّ، ممثَّلاً، في أحكام ميثاق الأمم المتّحدة.

إنّ القانون هذا يَلْحَظ التّكافؤ في الحقوق والمساواة القانونيّة بين أعضاء النّظام كافّة، على مثال ما يَلْحظ القانون – في الدّولة الوطنيّة الحديثة – المساواة بين المواطنين كافّة، وعدم التمييز بينهم على أساس الدّين والعِرق والأصل.

أمّا "مواطنيّة" الدول، في منطق القانون الدوليّ وميثاق الأمم المتّحدة، فتُقابلُها سيادتُها، وهذه شُدِّد عليها، في القانون الحديث، وأحيطت حرمتُها بالضّمانات منذ "معاهدة ويستفاليا"، في العام 1648، مثلما استُدخِل العملُ بها كمبدأ في الاتّفاقيّات الدّوليّة جميعها، كما في الأنظمة الدّوليّة ("عصبة الأمم"، الأمم المتّحدة) والأنظمة الإقليميّة والقاريّة ("جامعة الدّول العربيّة"، "الاتّحاد الأوروبيّ"...).

لذلك كان من المفترض أن لا تخشى دولةٌ على حقوقها ومصالحها وأمنها، لأنّ هذه محفوظة في القانون الدّولي وفي أحكام ميثاق الأمم المتّحدة، وما التّوازن سوى الشّعور بالطّمأنينة إلى حسن تطبيق الأحكام تلك بما هي متوافَق عليها، أي بما هي مشروعة وشرعيّة، ومصدرٌ للحقّ، وضمانٌ لمصالح الشّركاء في هذا النّظام جميعًا.

غير أنّ ما كان في حكم النظريّ، وكان موْطنَ إجماعٍ ومبْعث شعورٍ بالطّمأنينة لدى الدّول جميعًا، وخاصّةً لدى الأصغر منها والأقلّ إمكانيّات، لم يجد – من أسفٍ – طريقه إلى التّحقيق الماديّ والتّصريف السّياسيّ الواقعيّ، الأمر الذي تولّد من امتناع كينونته شعورٌ عامّ بالخيبة من نظامٍ يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، مثلما تنشَّأ من ذلك الشّعور فِقدانُ ثقةٍ به، وميْلٌ نحو عدم التّعويل عليهِ وبالتّالي، البحث عن وسائلَ أخرى لاستعادة الحقوق أو صوْنها أو تعظيمها.

حتى التّجمّعات الفرعيّة: الإقليميّة والقاريّة – وآخرُ أكبرها "الاتّحاد الأوروبيّ" ومجموعة "البريكس" – لا تُقْبَل أن تُقْرأ إلاّ بوصفها تعبيرًا عن ميْلٍ نحو طريقةِ أخرى للتّضامن والتّعاوُن لا يُؤمِّنها النّظام الدّوليّ القائم.

وهكذا تلِج العلاقات الدّوليّة – مرّةً أخرى – طورَ أزمةٍ حادّة بمناسبة هذا الاختلال المتزايد الذي أصيب به النّظام الدّوليّ منذ انتهاء الحرب الباردة.