في سياق التناول للتاريخ الإسلامي، يمكنك بغير عناء يُذكَر أن تتناول بالنقد بعض الدول الإسلامية، أو عهود بعض الحُكام من خلفاء وملوك وسلاطين، ولكن إياك إياك أن تفكر في نقد الدولة العثمانية وسلاطينها، وإلا وجدت نفسك هدفًا للاتهام في دينك ونواياك وأغراضك..

هذا هو القانون غير المكتوب، الذي يضعه كثير من الإسلاميين للتعامل مع التاريخ العثماني، فيحولونه إلى لغم شديد الحساسية، ينفجر لمجرد اللمس قاذفًا في وجهك الشظايا من نوعية "منافق" أو "حاقد على الإسلام والمسلمين" أو "متآمر على الإسلام وتاريخه".

بهذا الأسلوب الرخيص يدافعون عن تمجيدهم الأعمى لتلك الدولة، بدلًا من أن يمارسوا معك النقاش العلمي الموضوعي الناضج المعتمد على رد الرأي بالرأي وقرع الحُجة بالحجة.. الأمر الذي ينم عن تهافت شديد في انحيازهم للعثمانيين، وضعف للأسانيد المستند إليها هذا الانحياز.

فلماذا يفعلون ذلك؟ وما الرد على هذا المنهج في التفاعل مع الناقدين للدولة العثمانية؟

هشاشة الحجج والافتقار لأدوات النقاش:

من بديهيات فن النقاش أنك حين تفند رأيًا أو ترد على تحليل، تركز كلا من تفنيدك وردك على قول صاحب الرأي والتحليل وليس على شخصه.. فعندما يقول لك البعض: "أنا أرى كذا وكذا" تجيبه بـ:"وأنا أختلف معك بسبب كذا وكذا".. أما أن تجابهه بـ: "هذا لأنك منافق وحاقد وجاهل"-أو غيرها من الاتهامات- فهو فعل ينم عن هشاشة حججك وافتقارك لأبسط أدوات النقاش بل وآدابه.. فالعقل والمنطق والموضوعية العلمية تلزم الناقد بأن يتناول القول لا صاحبه، فـ "الحق لا يُعرَف بالرجال" أي أن القول لا يتحدد موضعه من الخطأ أو الصواب على أساس قائله، بل على أساس ما له من أسانيد وأدلة وقرائن.. والحيدة عن هذا المنهج في النقاش تهدمه من أساسه وتحوله إلى مشاجرة أو تراشق بالإهانات، فيخرج به عن موضوعه وهدفه..

هذا سلوك فاضح لجهل الممارس له، فلو كانت له حجة قوية أو قول دامغ لأتى به، أما التشاغل عن ذلك بكيل الاتهامات لشخص صاحب الرأي فهو نوع من "الهرب الرخيص" من لُب المناقشة، ينم عن أن دفاع ممارسه المستميت عن قضيته إنما هو عن تعصب أعمى وليس عن معرفة وعلم لهما احترامهما..

وللأسف فإن من أسباب ممارسة أغلب المدافعين عن العثمانيين لهذا السلوك انتماءهم لمدرسة فاسدة في النقاش، تفترض أولًا أن الغرض منه هو "انتهاؤه باقتناع أحد الطرفين بحجة الآخر" رغم أن النقاش ليس من الضروري أن ينتهي بذلك، وإنما يمكن أن يبقى كلا الطرفين على كل قناعاته أو بعضها مع الالتزام بمبدأ "التعايش الراقي مع الاختلاف"، فالمناقشات لا ترمي إلى الإقناع وإنما إلى فهم الآخر واحترامه والتعايش السلمي معه..

أما السبب الآخر لذلك فإنه يكمن في أنهم غالبًا ما يتلقون نماذج للمناقشات تنتهي كلها بسيناريوهات درامية من نوعية "ألقى عليه قوله فارتج على محدثه وانهزم وأصابه الخجل" أو "قذفه بالقول الدامغ فألقمه حجرًا" أو "أصابه بالقول الصاعق فأخرسه".. وكأنما النقاش هو بعض مبارزات العصور القديمة التي يتقارع فيها الخصمان بسيفيهما حتى الموت!

اللوذ بحديث فتح القسطنطينية:

لو راقبت تفاعل هؤلاء المتعصبين مع المتناول بالنقد للعثمانيين لوجدت قطاعًا كبيرًا منهم يكتفي بأن يسوق حديثًا منسوبًا للرسول محمد يقول: "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها" ثم يصمت وقد قنع في قرارة نفسه بأنه أنهى النقاش في هذا الشأن..

بدايةً فإن في اعتبار هذا الحديث "حصنًا" للعثمانيين من النقد، سوء فهم له سواء من حيث السياق التاريخي أو إدراك معنى الألفاظ أو المعرفة بتحليلاته وتفسيراته المتنوعة.

فمن حيث السياق التاريخي، فإن هذا الحديث يتناول واقعة بعينها هي "فتح القسطنطينية"، هذا العمل الذي تم تاريخيًا عام 1453 في عهد السلطان العثماني محمد بن مراد المعروف بـ "الفاتح" مجرد واقعة تاريخية واحدة ضمن عشرات-بل مئات-الوقائع التاريخية في التاريخ العثماني الممتد من القرن الثالث عشر الميلادي إلى الربع الأول من القرن العشرين، فهل يُعقَل أن يُختَصَر تاريخ دولة كاملة بسلاطينها وحروبها وأحداثها في واقعة واحدة فنغطي بها وبآثارها مجمل هذا التاريخ في ما قبل وبعد هذه الواقعة؟ إن هذا مما لا يقره علم التاريخ، وهي بدعة في هذا العلم لم نسمع بها من قبل!

ومن حيث فهم معنى الحديث، فإن المدح بـ"لنعم الجيش جيشها ولنعم الأمير أميرها" إنما ينصَب على مناسبة الفتح من دون غيرها، فالمدح الموجه للأمير إنما هو موجه له بصفته العارضة كقائد للجيش وليس لمجمل أعماله، وكذلك المدح لجيش الفتح إنما هو يقتصر على عملية فتح القسطنطينية من دون غيرها من الأعمال.. وتعميم الحكم فيه على كل عهد السلطان محمد الفاتح-بل وعهود باقي السلاطين-وعلى كل جيوش العثمانيين لاحقًا إنما هو خروج بالكلام عن معناه الواضح.

ومن حيث الإلمام بالآراء حول الحديث فإن اتخاذه درعًا للتاريخ العثماني ضد النقد إنما ينم عن جهل من يفعل ذلك بتفسيرات المشتغلين بعلم الحديث له..

فبعضهم صنفه كـ"حديث صحيح" بينما قال البعض الآخر إنه ضعيف، بل ذكره البعض مقتصرًا على حدث الفتح من دون تضمينه مدح الفاتحين..

بل اختُلِفَ على انطباقه أحاديث فتح القسطنطينية على واقعة فتح العثمانيين لها سنة 1453، فقال بعض المفسرين وأهل الفقه والتاريخ-كالحافظ ابن كثير في كتابه "النهاية في الفتن والملاحم"- إن تلك الأحاديث إنما تتناول فتحًا آخر في "أحداث آخر الزمان"، حيث يتحارب المسلمون مع الروم "بني الأصفر" ثم تقع بينهم هدنة يخرقها الروم فيرجعون لحرب المسلمين وتسارع المدن الإسلامية لتقديم الدعم حتى تُحاصَر القسطنطينية فيفتحها المسلمون-في بعض الروايات بالتكبير والتهليل فحسب-ثم يملكونها ويكون بعد ذلك خروج المسيخ الدجال ثم تتابع أحداث آخر الزمان حتى قيام القيامة..

فلماذا يكتفي من يسوقون الحديث سالف الذكر بالرد به والصمت عن كل ما يتعلق به من جدل وتفسبرات ومناقشات؟ أليس في هذا الأسلوب "الانتقائي" دليلًا على تهافت الحجج وفقر الأسانيد؟

ثم لماذا يميزون العثمانيون عمن سواهم من المسلمين بخاصية "التحصين" بفعل حديث فتح القسطنطينية لكأنها المدينة الوحيدة التي ذُكِرَ فتحها في الحديث النبوي؟ ألم تذكر هذه الأحاديث كذلك فتح قصور فارس والشام واليمن وفتح جزيرة قبرص وفتح مصر؟ فلماذا يقتصر التمجيد بهذه الحرارة على فاتحي القسطنطينية من دون غيرها؟

بل قلما وُجِدَت مدينة إسلامية إلا وقد حظت بنصيبها من الأحاديث المنسوبة للرسول أو أقوال المدح المنسوبة للصالحين، ونظرة في ذِكر فضائل بعض المدن في كتب مثل "معجم البلدان" لياقوت الحموي أو "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للسيوطي تجعلنا ندرك بسهولة أن ما نالته قسطنطينية العثمانيون من مدح إنما هو مجرد حالة من حالات "المدائح الدينية للمدن" في التراث الإسلامي.

على أية حال فإن مسألة "تحصين التاريخ العثماني بربطه بقول ذي صفة دينية" إنما هي ممارسة قديمة سبق أن مارسها بعض العثمانيين القدامى، فعلى سبيل المثال نقرأ في كتاب "سياحت نامه" للرحالة العثماني أوليا جلبي (القرن السابع عشر) عن رؤيا للسلطان العثماني أحمد رأى فيها اجتماع الرسول محمد بسلاطين المسلمين وشكوى السلطان المملوكي قايتباي من عدم مراعاة السلطان أحمد لمسجده، ورد الرسول عليه بألا يشكو من بني عثمان لأنهم مجاهدون مذكورون في القرآن يدعمهم الله ويجعلهم يحكمون الأرض حتى يأتي المهدي في آخر الزمان ولا يتركون فيها كافرًا!

طبعًا فإن نظرة واحدة للتاريخ العثماني تجعلنا ندرك الكذب المفضوح في أمر هذه الرؤيا المزعومة، لكنها تنم عن قِدَم منهج التحصين هذا، وأن ما يمارسه المتعصبون للتاريخ العثماني إنما هو حلقة في سلسلة قديمة من الكذب والتدليس، وعلى رأس ذلك قول يتشدق به بعضهم أنه "لا يبغضهم إلا منافق أو ضعيف الإيمان أو جاهل بأيديهم البيضاء" ولئن كان هؤلاء يصرون على توظيف الأحاديث لحماية قضيتهم من المساس فإنهم يقعون هنا في تناقض فاضح حيث يخالفون بهذا القول سالف الذكر كل ما ورد في الأحاديث-بل والقرآن الكريم نفسه-من علامات تدل على ماهية المنافق وضعيف الإيمان والجاهل.. لكنه الانتقاء وفق الهوى كما قلت!

تحصين الإنساني بجعله إلهيا!

بتفاعل الإنسان مع المكان والزمان ينشأ "الحدث التاريخي"، ولهذا فإن علم التاريخ يوصف بأنه "من العلوم الإنسانية"، فالتاريخ "إنتاج إنساني بحت"، وتناول أبطاله من "أشخاص تاريخيين" إنما يكون من منطلق كونهم بشرًا يصيبون ويخطئون، وبالتالي فإن تقييم أفعالهم يكون من المنطلق نفسه.

أما تحصين هؤلاء الأشخاص وهذه الأفعال بإضفاء صبغة دينية واعتبار الناقد لهم عدوًا للإسلام والمسلمين، فإنه يخرج بالشخص التاريخي من صفة الإنسانية لصفة الإلهية المعصومة من الخطأ والمنزهة عن النقد.. مما يقودنا لنتيجة مباشرة أن من يفعل ذلك هو شخص يساوي الإنسان بالإله، في مخالفة صريحة وصارخة لأبسط قواعد الدين، التي لا تضع مخلوقًا على قدم المساواة مع الخالق..

وهو ما تنطبق عليه بدقة صفة "جرأة الجهل"!