يبدو أن الحكومة العراقية نجحت أخيرا في إنهاء موجة الاحتجاجات الشعبية التي عمت مناطق كثيرة في البلاد، خصوصا العاصمة بغداد التي شهدت أوسع المظاهرات، باستخدام قمع غير مسبوق عراقيا منذ 2003.

ففي الأيام الستة من الاحتجاجات الشعبية، أطلقت فرق قناصة "مجهولين" النار على رؤوس محتجين شباب، لتقتل نحو 150 بينهم (يقول محتجون إن العدد الحقيقي أعلى بكثير)، فضلا عن جرح آلاف آخرين، فيما كانت قوات الأمن تلاحق الناشطين وتعتقلهم، وعلاوة على ذلك قطع الإنترنت عن البلاد، باستثناء إقليم كردستان، لمنع نقل المعلومات والأفلام، وإعلان حظر التجول، وتقطيع أوصال العاصمة عبر وضع الحواجز الإسمنتية ونشر أعداد كبيرة من رجال الأمن لمحاصرة المناطق المحتجة ومنع التنقل بينها.

هاجمت فرق "مجهولة" محطات التلفزيون التي كانت تغطي الاحتجاجات، فيما عوقبت المحطات الإذاعية بقطع بثها عن العاصمة وتعطيل أرقام هواتف اتصال المستمعين بها، عبر هذه الإجراءات الاستثنائية نجحت الحكومة في اليومين الأخيرين من الاحتجاجات، في فرض تعتيم كامل على الحركة لتمنح نفسها الحرية باستخدام مستويات أعلى من العنف.

كان الخطاب الحكومي العراقي في خلال تلك الأيام الستة الصعبة مرتبكا ومتناقضا، إذ التزمت الحكومة الصمت في الأيام الثلاثة الأولى قبل أن يظهر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، بعد منتصف الليل في فجر يوم الجمعة، فيما بدا استباقا لخطبة المرجعية الدينية في النجف، ليلقي خطابا بائسا يجمع بين مواقف متضاربة، كاعتبار التظاهرات الاحتجاجية خرقا أمنيا يهدد الدولة في في الصراع بين "الدولة واللادولة" بحسب تعبيره من جهة، وإقراره بمطالب المحتجين المشروعة التي ستعمل حكومته على تنفيذها من جهة أخرى.

أضاف هذا الخطاب إلى غضب المحتجين وبقية الشارع العراقي، إذ أظهر رئيس الوزراء منفصلا عن الواقع وهو يتحدث عن ضرورة الدفاع عن النظام الديمقراطي العراقي الذي كان يطلق الرصاص الحي على محتجين سلميين في وسط أجواء قمع أمني وإعلامي صادم! بعده بأكثر من يومين جاء خطاب مستشار الأمن الوطني العراقي ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، أكثر استفزازا للشارع، عبر توظيفه فهما مؤامراتيا للاحتجاجات، مصرا على وجود مندسين ومغرضين فيها يسعون إلى إسقاط النظام ستواجههم الدولة بقوة السلاح وتهزمهم، حتى مع اعترافه العابر أن الاحتجاج حق ديمقراطي أقره الدستور وأن مطاليب المحتجين مشروعة!

التناقضات في الخطاب والسلوك الحكومي كثيرة وفاضحة، فالذين سقطوا برصاص الأمن هم محتجون عاديون وسلميون من شباب صغار رفع كثيرون منهم علم العراق وأعلنت الحكومة بعد نهاية الاحتجاجات الحداد الرسمي عليهم، معتبرة إياهم شهداء يستحقون التعويضات! كيف يمكن للحكومة أن تعتبر من تصفهم بممثلي اللادولة والمغرضين والمندسين الذين ينبغي مواجهتهم بالسلاح شهداء يستحقون حدادا رسميا وتعويضا ماديا لأهاليهم، إلا إذا كان هذا إقرار خجول آخر منها أنها استهدفت برصاصاتها محتجين أبرياء؟ كيف عجز الرصاص الحكومي عن الوصول إلى هؤلاء المندسين والمغرضين ليجد بديلا سهلا عنهم في أجساد شبان محتجين، تقول الحكومة نفسها إن مطالبهم مشروعة؟

الموقف الحكومي الأفضل والأكثر توازنا جاء في خطاب رئيس الجمهورية برهم صالح، الذي ابتعد عن لغة تخوين المحتجين والتفسيرات المؤامراتية للاحتجاج. اصطف الخطاب مع المحتجين مطالبا بتحقيق قضائي في عمليات القتل التي حصلت ومحاسبة المسؤولين عنها، ليعرض خارطة طريق معقولة تتضمن إصلاحات بنيوية مثل تعديل النظام الانتخابي وتفكيك نظام المحاصصة والشروع بمكافحة حقيقية للفساد لا تستثني الأحزاب والشخصيات النافذة في الدولة، لكن في ضوء الصلاحيات المحدودة دستوريا لرئيس الجمهورية واصطدام بعض إصلاحاته المقترحة بمصالح قوى نافذة في الدولة، من المستبعد أن تجد خارطة الطريق هذه طاقة للتنفيذ.

ولعل أهم ما كشفت عنه الاحتجاجات الأخيرة أمران مقلقان، الأول شدة انفصال الطبقة السياسية النافذة عن الشارع وعناءاته ورغباته، فضلا عن سوء فهمها العميق للسلوك الاحتجاجي القوي والمشروع  لهذا الشارع. يتشح هذا القلق بمعنى خاص هنا في ظل كون الشارع المعني بالاحتجاجات هنا شارع شيعي، وعلى الأخص في جزئه الأكثر فقرا وحاجة، وربما الأكثر تضحية في قصة عراق ما بعد 2003، فهذا الشارع الذي يمثل الأغلبية في الجمهور الشيعي، تحمل حصة الأسد من عناء التفجيرات بالسيارات المفخخة التي كان يشنها ضده تنظيما القاعدة وداعش، فكانت أرقام الضحايا منه مهولة فعلا. ثم كان لهذا الشارع دور مهم في عمليات التحرير التي تلت سيطرة داعش على الموصل، سواء من خلال التطوع في تنظيمات الحشد الشعبي أو في صنوف القوات المسلحة الأخرى، وبالتالي كان عدد الضحايا الذين قدمه هذا الجمهور الشيعي كبيرا. وقبل كل هذا، كان هذا الجمهور هو الرافعة الانتخابية التي استندت إليها الاحزاب الإسلامية الشيعية للوصول إلى سدة الحكم واحتكاره والاستئثار بموارده على نحو أنساها جمهورها الذي أوصلها إلى هذه السدة.

من هنا كانت مفاجأة الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة بهذه الاحتجاجات كبيرة، لأنها أتت من ذات القاعدة الاجتماعية التي وفرت لهذه الطبقة الشرعية السياسية والانتخابية في الحكم، وهو ما يعني منطقيا خوفها من أن فقدانها هذه القاعدة سيقود إلى فقدانها المستقبلي لاحتكارها للحكم.

لكن رد الطبقة السياسية الشيعية على هذه الاحتجاجات كان أيضا مفاجئا في قسوته، عبر لجوئه للعنف المفرط وفي خروجه عن المنطق عبر استخدامها أقسى أدوات العنف ضد جمهورها الانتخابي، فضلا عن محاولاتها شيطنة هذا الجمهور، دون الأخذ في الاعتبار التعاطف الواسع وغير المسبوق من عموم الجمهور الشيعي مع هذه الاحتجاجات. لذلك يبدو تعاطي الطبقة السياسية الشيعية مع الاحتجاجات محيرا، وأقرب إلى الانتحار السياسي البطيء منه إلى أى شيء آخر. لكن أيضا يمكن تفسير هذا السلوك على أساس إحساس واهم بالثقة لدى هذه الطبقة النافذة، بأنها تستطيع أن تستبدل دعما شعبيا حقيقيا ذا جذور مذهبية بهيمنتها على أدوات الدولة ومواردها، التي تستطيع عبرها ليس فقط استعارة بعض ممارسات العنف الاستبدادي من عهد صدام حسين، بل أيضا تجديد شرعيتها السياسية من خلال حزم الرشاوى الانتخابية التي تقدمها هذه النخبة للقطاعات الأكثر فقرا والأقل وعيا ضمن هذا الجمهور عند اقتراب الموسم الانتخابي.

في هذا كله، تبرز مراهنة واثقة على ذاكرة قصيرة لهذا الجمهور تنسيه تضحيات الأمس بمكتسبات اليوم، قد تكون بعض هذه التكتيكات السياسية ناجحة في الماضي، لكن الاحتجاجات الأخيرة كشفت تحولا كبيرا في الوعي السياسي وفي نوعية الغضب الشعبي الذي، على الأغلب،  سينقل موعد الحسم وساحته من يوم انتخابي متفق عليه عبر  صناديق اقتراع يهيمن عليها ساسة فاسدون، إلى يوم مفاجئ آخر في شوارع عراقية ستكتظ باحتجاجات مقبلة أكثر اتساعا وأشد إصرارا، محمية بالتفاف شعبي أكثر زخما، سيبدو "الانتصار" الذي حققته الحكومة العراقية هزيمة مؤجلة لم تستعد لها هذا الحكومة جيدا.