يطلق علماء النفس على بعض اللحظات المهمة والتاريخية " الوقت القيم "، بمعنى أنه الوقت الذي تعظم فيه الاستفادة من الأحداث الجارية، وبما يخدم التوجهات الاستراتيجية للدول والمؤسسات وحتى للأفراد.

بالأمس كانت المملكة العربية السعودية تتخذ قراراً في وقت قيم جداً، وذلك بانضمامها إلى التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية في الخليج العربي والبحر الأحمر.

أسئلة عدة تقفز إلى المشهد، وفي مقدمتها: هل أضحى لهذا التحالف حاجة ماسة في الوقت الراهن؟ وهل تملك المملكة الإمكانات التي تدعم بها هذا التحالف؟ ثم وهذا هو الأهم ما المخاطر المحدقة بالمياه الدولية في تلك المنطقة ومن يقف وراءها؟.

الشاهد أن فكرة حماية الملاحة الدولية في منطقة الخليج ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى عقود، وبالتحديد إلى فترة الحرب الإيرانية العراقية في عقد الثمانينات من القرن المنصرم. ويبدو أن إيران، المهدد الأول للملاحة في تلك الرقعة الجغرافية من العالم، عازمة على إعادة التاريخ إلى الماضي وتكراره مرة أخرى، وقد شاهد العالم القرصنة الإيرانية للسفينة البريطانية من جهة، والعمليات التخريبية للعديد من القطع البحرية في مياه بحر عمان تحديداً من جهة أخرى.

دعت تطورات المشهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ،  لدعوة  الدول صاحبة المصلحة الكبرى في  أن تظل الملاحة آمنة في الخليج العربي، إلى بناء تحالف دولي عالمي، لمواجهة أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم،  لا سيما أنه إرهاب نوعي، بمعنى إرهاب دولة  وليس إرهاب جماعة أو ميليشيات.

أدت دعوة ترامب إلى انضمام عدد من الدول الكبرى بالفعل مثل بريطانيا  واستراليا،  ثم جاءت إسرائيل،  في حين وقف الحلفاء الأوربيون مترددين بعض الشيء، وإن كانت مواقفهم قد تغيرت  في الأيام القليلة الماضية، لاسيما بعد العمل الإرهابي الإيراني المؤكد تجاه المملكة العربية السعودية، خاصة فرنسا، وستليها ألمانيا.

السؤال الواجب طرحه: ما الذي يستدعي قلق دول العالم، مما يجري في المضايق المائية المهمة، لاسيما مضيق هرمز وبحر العرب وباب المندب، وعموم المياه الدولية في تلك المنطقة؟.

باختصار غير مخل، يبقى الخليج العربي وممراته شرياناً رئيساً للاقتصاد العالمي،  فمن خلاله تمر الملايين من براميل النفط كل يوم، لتغذي أسواق الطاقة العالمية، ومع دخول فصل الشتاء، وحال حدوث أي اضطراب في حركة الملاحة هناك، يمكن القطع بأن الاقتصاد العالمي سوف يتعرض إلى هزة كبرى، والجميع يتوقعون حالة من الركود والتضخم الدوليين، مما يعني أن الضربات التي توجه إلى سوق الطاقة الخليجي، سوف تطعن قلب الاقتصاد العالمي.

أدركت المملكة أن القادم للأسف غير مطمئن، وهو الشعور عينه الذي دفع دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الانضمام للتحالف عينه في اليوم التالي، وفي تنسيق واضح بين الإخوة والأشقاء في الإمارات والمملكة، وقد تولد هذا الإدراك من توجهين رئيسيين:

الأول: التهديدات الإيرانية المتواصلة لاسيما من أعلى مستويات القيادة الإيرانية، كالمرشد خامنئى وبقية أركان الحرس الثوري،  تلك التي تهدد وتتوعد بأنه حال تصفير صادرات النفط الإيراني إلى الخارج، فان نفط الخليج العربي برمته، لن يجد طريقه إلى الخارج.

الثاني: أن ما  توعدت به إيران من شرور، بدأ يتحقق، ولم يعد مجرد تهديدات إنشائية أو بلاغية فقط،  وزاد التأكد من النوايا الإيرانية الخبيثة بعد الضربات الصاروخية وبالطائرات المسيرة التي هاجت معامل شركة أرامكو.

يعن للمحلل السياسي المحقق والمدقق التساؤل: هل لدى المملكة من القوة البحرية ما يجعلها شريكاً فاعلاً في مثل هذا التحالف الدولي الذي تزداد الحاجة إليه في الحال والاستقبال؟.

يمكن القطع بأن البحرية السعودية  لها  مكانة متقدمة في ترتيب القوى المماثلة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، ويعود إنشاؤها إلى  خمسينات القرن الماضي، وقد كانت  لها مشاركة فاعلة في حرب الخليج الثانية، حيث استطاع مشاة البحرية والصاعقة البحرية السعودية، اجتياح الكويت  والاشتباك مع  القوة العراقية الغازية.

كما أن المملكة في واقع الحال، تقسم قواتها البحرية إلى قسمين: الأسطول الشرقي في الخليج العربي  وبحر عمان، والأسطول  الغربي في البحر الأحمر، مما يعني أنها خبيرة  في تكتيكات المواجهة بالمنطقة.

كان من الطبيعي بعد قرار المملكة الأخير، أن يثمن قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي، قرار العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، بالانضمام إلى مجموعة الأمن البحري.

فقد قال الجنرال كينيث ماكينزي: "إن انضمام الرياض للتحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية، من شأنه القيام بدور نشط في الحفاظ على حرية الملاحة وتعزيز الأمن البحري، وتخفيف التوترات الإقليمية."

وأضاف، على حساب القيادة المركزية الأميركية في "توتير": "نقدر الدور الرائد للسعودية في المسائل الأمنية الإقليمية، ونرحب بالتزامها بالحفاظ على التدفق الحر للتجارة".

وتابع قائد القيادة المركزية الأميركية أن التهديدات التي تواجه حرية الملاحة، تتطلب حلاً دولياً.

الذين قرأوا البيان الصادر عن المملكة، يمكنهم أن يفرقوا بين توجه قوات بحرية سعودية وخليجية، تريد أن تدفع  الضرر عن بقية العالم،  من خلال العمل النافع، وما تمضي إليه القوات الإيرانية التي ستدور عليها الدوائر في نهاية المشهد.

يقول البيان السعودي إن الهدف الرئيس من الانضمام للتحالف، هو حماية السفن التجارية  بتوفير الإبحار الآمن، لضمان حرية الملاحة  البحرية والتجارة العالمية، وحماية مصالح الدول المشاركة في التحالف، بما يعزز الأمن وسلامة  السفن التجارية  العابرة  والخليج العربي.

السؤال الجوهري هو : هل يمكن أن يشهد الخليج العربي مواجهة بحرية مع إيران تذكر بما حدث نهاية الثمانينات، لا سيما العملية الشهيرة المعروفة  باسم "براينغ مانتيس"؟.

يمكن بالقطع للجنون الإيراني أن يقودها إلى التهلكة، فهي لا ترعوى من دروس الماضي الأليمة، ففي 14 أبريل 1988 اصطدمت فرقاطة الصواريخ الأميركية  "يو إس صموئيل" بلغم بحري، حين كانت تبحر في مياه الخليج العربي، الأمر الذي أحدث فيها ثقباً، وذلك قبل أن تنقذها  البحرية الأميركية ، من خلال التحقيقات أدرك الأميركيون  من الأرقام المسلسلة على الألغام، أنها إيرانية،  ومن هنا كانت القارعة  التي استمرت أربعة أيام  عبر علمية "براينغ مانتيس" أو "فرس النبي ".

خلال تلك الأيام تكبدت إيران خسائر فادحة من منشآت  بحرية واستخباراتية   على منصتي نفط، وإغراق 3 زوارق سريعة مسلحة، وفرقاطة  واحدة وزورق هجومي، وإصابة الفرقاطة سابالان، وفقدان نصف الأسطول العملياتي، ومقتل 55 شخصاً  من البحرية الإيرانية.

هل تسعى إيران من جديد إلى مواجهة أممية في مياه الخليج العربي؟

مهما يكن الجواب، فإن هناك قيمة مستخلصة من التحرك السعودي الإماراتي الأخير، مفادها أن الدفاع عن النفس وطرح القضايا المصيرية يبدآن من الذات وليس من الآخر، وإن لم يعن ذلك بالضروة عدم التعاون مع هذا الآخر.